مخلوقات بحرية تتلألأ في الظلام: أسرار الإضاءة الحيوية في أعماق المحيطات

في أعماق المحيط، حيث ينعدم الضوء وتُخيّم العتمة الكاملة، تنبض الحياة بألوان مدهشة، وتتكشّف أمامنا ظاهرة تكاد تكون خيالية: كائنات حية تضيء نفسها بنفسها، كما لو أننا أمام مشهد من فيلم خيال علمي… لكنه واقع مذهل يسكن قاع البحار. تخيّل أنك تغوص في عمقٍ مظلم بلا نهاية، لا يُرى فيه شيء، وفجأة تلمح نقاطًا مضيئة تتحرك كالنجوم الصغيرة، إنها كائنات بحرية تحمل الضوء في داخلها، وتشعّ دون أي مصدر خارجي.
ما هو سر هذه القدرة العجيبة؟
View this post on Instagram
الظاهرة التي تمنح هذه الكائنات نورها تُعرف باسم الإضاءة الحيوية Bioluminescence، وهي قدرة مذهلة على إنتاج الضوء من خلال تفاعل كيميائي داخلي بين مادة تُسمى لوسيفيرين Luciferin وإنزيم يُعرف بلوسيفيراز Luciferase. هذا التفاعل ينتج ضوءًا طبيعيًا، غالبًا باللون الأزرق أو الأخضر، وهو ما يجعل الحياة تنبثق من الظلام بطريقة ساحرة لا يصدقها العقل. ولا تقتصر هذه الظاهرة على المحيطات فقط، بل تظهر أيضًا في بعض الحشرات مثل اليراعات، وفي أنواع نادرة من الفطريات، بل وحتى في بعض العوالق الدقيقة التي تجعل مياه البحر تتوهج تحت سطح القمر.
من هم سكان الأعماق المتوهجون؟
في المناطق التي لا تصل إليها أشعة الشمس، طوّرت بعض الكائنات البحرية أساليب عبقرية للاستفادة من الضوء الذي تنتجه أجسامها. تستخدمه بعض الأنواع لجذب الفريسة، وأخرى للتخفي أو الدفاع، أو حتى للتواصل والتكاثر. إليك أبرز هذه الكائنات:
View this post on Instagram
سمكة الصيادAnglerfish : تمتلك زائدة مضيئة فوق رأسها تشبه المصباح، تجذب بها فرائسها في ظلمة الأعماق. شكلها مرعب، لكنها بارعة في الصيد.
View this post on Instagram
الحبار المضيء: مزود بأعضاء ضوئية تشع باللونين الأزرق والأخضر، يستخدمها لجذب الأسماك الصغيرة أو للتمويه حين يهرب من خطرٍ داهم.
View this post on Instagram
العوالق البحرية: تضيء عند اضطراب الماء – بحركة موج أو يد – فتبدو وكأن البحر يلمع! مشهد ساحر يتكرر في بعض الشواطئ.
View this post on Instagram
الديدان المتوهجة: تطفو أحيانًا على السطح وتصدر ومضات خفيفة تشبه شرائط نيون، وتضفي على سطح الماء منظرًا غريبًا وجذابًا.
View this post on Instagram
العوالق المضيئة Plankton : كائنات دقيقة تومض عند ملامستها، وتحوّل الأمواج إلى شرارات زرقاء في الليل. يمكن رؤية هذا المشهد البديع في جزر مثل المالديف وبورتو ريكو.
لماذا تُضيء هذه الكائنات نفسها؟

الإضاءة الحيوية ليست زينة فقط، بل أداة للبقاء والتكاثر. بعض الكائنات تُصدر ومضات مفاجئة لتُربك المفترسات وتُبعدها. بعضها الآخر يستخدم الضوء كطُعم لصيد الفريسة، حيث تنجذب الكائنات الأخرى للضوء فتقع في الفخ. وتستخدم أنواع مثل اليراعات الضوء للتواصل والتزاوج من خلال إشارات ضوئية محددة. وهناك من يستخدم الضوء للتمويه، بحيث يندمج مع الإنارة الخافتة القادمة من سطح الماء، فلا يُكتشف من قبل الأعداء.
من أعماق البحر إلى مختبرات العالم
View this post on Instagram
ظاهرة الإضاءة الحيوية لم تدهش علماء الأحياء فقط، بل ألهمت باحثين في مجالات متعددة، منها الطب، التكنولوجيا والبيئة. في الطب الحيوي، تُستخدم البروتينات المضيئة للكشف عن الخلايا السرطانية داخل الجسم. في التكنولوجيا، يعمل الباحثون على تطوير مصادر إضاءة طبيعية لا تحتاج إلى كهرباء. في علم البيئة، تستخدم الكائنات المضيئة ككاشف حساس لتلوث المياه، إذ تتغير استجابتها عند وجود ملوثات. كما يستلهم المهندسون من هذه الكائنات أفكارًا مستقبلية، مثل تصميم أدوات طبية مضيئة يمكنها العمل داخل الجسم، أو حتى ابتكار روبوتات بحرية بقدرات تمويه ضوئية تحاكي الحبار!
أين يمكن رؤية هذه العجائب؟
View this post on Instagram
رؤية هذه الظاهرة المذهلة ممكنة في بعض بقاع العالم، حيث تتحول المياه إلى بحر من الضوء تحت السماء الليلية. أبرز المواقع: خليج موسكيتو – بورتو ريكو، جزيرة فادهو – جزر المالديف، سواحل جامايكا وبعض مناطق جنوب شرق آسيا. عندما ننظر إلى هذه الكائنات، ندرك أنّ أعماق البحر لا تخلو من السحر، بل هي موطن لعجائب طبيعية قد تفوق الخيال. في كل ومضة ضوء هناك رسالة من الطبيعة: ما زال هناك الكثير لاكتشافه.