جوائز نوبل 2025: إرث عبقرية يتجدّد بين مختبرات العلم ونبض الإنسانية

منذ أكثر من قرن، شكّلت جوائز نوبل مرجعًا عالميًا لتكريم العقول والإنجازات التي غيّرت وجه الإنسانية. غير أنّ دورة عام 2025 لم تمرّ بهدوء؛ إذ أثارت موجة من النقاشات والانتقادات التي طالت معايير الاختيار، والتوجهات السياسية الكامنة وراء بعض القرارات، وحتى مفاهيم الهوية والانتماء العلمي. لكن رغم كل الانتقادات، تبقى نوبل لحظة سنوية تجمع العالم حول قصص الأمل والاكتشاف والإصرار. لكن ما تكشفه نقاشات 2025، هو أنّ الجائزة لم تعد فقط مرآة للعبقرية الفردية، بل أيضًا لزمن تتقاطع فيه السياسة والعلم والأخلاق، في مشهد واحد معقّد.
أبرز لحظات جوائز نوبل 2025: بين انتصارات العلم وصدى السياسة
View this post on Instagram
شهدت جوائز نوبل لعام 2025 لحظات مفعمة بالدهشة والتأمل، جسّدت مزيجاً نادراً من عبقرية الاكتشاف العلمي وشجاعة الموقف الإنساني. من مختبرات الأبحاث إلى قاعات السياسة، رسم الفائزون هذا العام خريطة جديدة لتطلعات البشرية.
ففي الطب، أثار اكتشاف آلية “التسامح المناعي المحيطي” إعجاب العالم، لما يحمله من أمل في علاج أمراض المناعة الذاتية والسرطان. أما في الكيمياء، فقد احتفت الأكاديمية بالبنى المعدنية–العضوية (MOFs) التي قد تغيّر مستقبل تنقية المياه والتقاط الكربون.
View this post on Instagram
وفي لحظة مؤثّرة على المسرح الأدبي، تلقّى الكاتب المجري لاسلّو كرازناهوركاي جائزة الأدب بابتسامة متحفّظة، بينما وقف الحضور مصفقًا لرؤيته القاتمة التي تحاكي قلق الإنسان المعاصر.
View this post on Instagram
أما المشهد الأبرز فكان سياسياً بامتياز، حين اعتلت ماريا كورينا ماتشادو المنصّة لتنال جائزة نوبل للسلام، ممثلةً نضال الشعب الفنزويلي من أجل الديمقراطية.
من وصية ألفرد نوبل إلى إرثٍ عالمي
View this post on Instagram
وُلدت الفكرة في عام 1895، حين كتب العالم والمخترع السويدي ألفرد نوبل وصيته الأخيرة، مخصصًا معظم ثروته الضخمة لتأسيس جوائز سنوية تُمنح لمن “قدّم للبشرية أعظم فائدة”.
تحولت تلك الوصية إلى مؤسسة تحمل اسمه وتديرها اليوم “مؤسسة نوبل”، التي تستثمر رأس المال الأصلي — نحو 250 مليون دولار بمقاييس اليوم — في محافظ مالية لتأمين استدامة الجوائز. ومن عوائد هذه الاستثمارات تُموَّل الجوائز التي تبلغ قيمتها الحالية نحو 11 مليون كرونة سويدية لكل فئة.
تُمنح الجوائز وفقًا لوصية نوبل في خمسة مجالات: الفيزياء، الكيمياء، الطب أو الفسيولوجيا، الأدب، والسلام، وأضيفت إليها لاحقًا جائزة العلوم الاقتصادية عام 1968 بتمويل من البنك المركزي السويدي.
وتُعلَن أسماء الفائزين في شهر أكتوبر، فيما يُقام الحفل الرسمي في 10 ديسمبر، ذكرى وفاة نوبل، وسط أجواء من الفخر والتأمل في قاعة استوكهولم الملكية وأوسلو النرويجية.
2025 عام الانتصارات العلمية والرسائل السياسية
View this post on Instagram
في دورة هذا العام، حملت الجوائز صدى واضحًا لتحدّيات العصر، من البيئة والذكاء الكمومي إلى الحرية السياسية.
في الطب، نال كل من ماري برانكو وفريد رامسديل وشيمون ساكاغوتشي الجائزة لاكتشافهم آليات “التسامح المناعي المحيطي”، ما فتح الباب أمام علاجات جديدة لأمراض المناعة الذاتية والسرطان.
View this post on Instagram
أما في الفيزياء، فقد احتفى العالم بتجارب تُقرّب الظواهر الكمومية من المقاييس اليومية، ممهّدة الطريق لحوسبةٍ واستشعارٍ كموميٍّ أكثر دقة.
View this post on Instagram
وفي الأدب، فاز الكاتب المجري لاسلّو كرازناهوركاي، الذي وصفته الأكاديمية السويدية بأنه “كاتب يواجه انهيار العالم بجمالٍ فلسفيٍّ مهيب”.
View this post on Instagram
وفي الاقتصاد، مُنحت الجائزة لكلٍّ من جويل موكير وفيليب أغيّون وبيتر هاويت عن أبحاثهم في دينامية الابتكار والنمو المستدام.
View this post on Instagram
أما جائزة نوبل للسلام فكانت الحدث الأبرز، إذ فازت بها ماريا كورينا ماتشادو من فنزويلا، تكريمًا لنضالها من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وفي هذا المقال سنضيء على أبرز التأثيرات التي ستتركها الاكتشافات العلمية الفائزة بنوبل هذا العام على حياتنا اليومية وكيف ستغيّر المستقبل.
«تسامح» جهازنا المناعي مع أجسادنا: حل للأمراض المناعية… والسرطانية
View this post on Instagram
في كل خلية من خلايا أجسادنا جيش صامت من الخلايا المناعية، يقف على أهبة الاستعداد للدفاع ضد أي غزو. لكن ما الذي يمنع هذا الجيش من مهاجمة الجسد نفسه؟
سؤال بسيط في ظاهره، لكنه حيّر العلماء لعقود حتى جاء الاكتشاف الذي منح أصحابه جائزة نوبل في الطب لعام 2025.
إذ كرّمت الأكاديمية السويدية ثلاثة علماء: ماري برانكو وفريد رامسديل من الولايات المتحدة، وشيمون ساكاغوتشي من اليابان، تقديرًا لاكتشافهم ما يُعرف بـ “التسامح المناعي المحيطي” أي قدرة الجسم على كبح جهازه المناعي من مهاجمة ذاته.
View this post on Instagram
جهاز المناعة هو درعنا الأول ضد الجراثيم والفيروسات. لكنه أحيانًا يخطئ الهدف، فيهاجم أنسجتنا كما لو كانت غريبة عنه، ما يؤدي إلى أمراض مثل السكري من النوع الأول والتصلب المتعدد والتهاب المفاصل الروماتويدي.
كان الاعتقاد السائد أنّ الجسم يتخلّص من هذه الخلايا “المتمرّدة” في الغدة الصعترية خلال المراحل الأولى من النمو. لكن الأبحاث الجديدة كشفت أن هناك نظامًا دفاعيًا ثانيًا يعمل خارج هذه الغدة في أنحاء الجسم كافة يضبط سلوك المناعة بشكل أدق.
اكتشاف خلايا “الحُراس”
View this post on Instagram
في منتصف التسعينيات، لاحظ ساكاغوتشي وجود نوع مميز من خلايا المناعة يُعرف بالخلايا التائية التنظيمية Regulatory T Cells أو Tregs ، هذه الخلايا لا تهاجم، بل تمنع الهجوم، وتعمل كقائد حكيم يهدّئ جنوده عندما يشتد الحماس.
بعدها بسنوات، اكتشف برانكو ورامسديل أن جينًا اسمه FOXP3 يتحكم بتكوين هذه الخلايا. وعندما يتعطل هذا الجين، تختفي “فرامل” المناعة، فيبدأ الجسم بمهاجمة نفسه بلا توقف تمامًا كما يحدث في أمراض المناعة الذاتية.
ولكن بفضل هذا الاكتشاف، تغيّر فهم العلماء جذريًا لكيفية عمل جهاز المناعة. اليوم، هناك أكثر من 200 تجربة سريرية حول العالم تسعى لاستغلال هذه الخلايا لعلاج أمراض مستعصية.
في المستقبل، قد نرى علاجات تعيد تدريب الجهاز المناعي بدلًا من قمعه بالأدوية، ما يعني تقليل الآثار الجانبية وتحقيق شفاء طويل الأمد.
كما يفتح هذا المجال آفاقًا جديدة في زراعة الأعضاء، إذ يمكن تعزيز خلايا الـTregs لتقليل رفض الجسم للعضو المزروع، أو في السرطانات لموازنة قوة المناعة بين الهجوم والحماية.
عمر ياغي وكيمياء الأمل .. مستقبل أكثر استدامة
View this post on Instagram
الحدث العلمي الأهم كان في جائزة نوبل للكيمياء، التي ذهبت إلى البروفسور عمر ياغي إلى جانب سوسومو كيتاغاوا وريتشارد روبسون، لاكتشافهم البنى المعدنية–العضوية (MOFs) هياكل دقيقة المسام تُعد من أكثر المواد تطورًا في عصرنا.
هذه المواد، التي يُطلق عليها البعض “الإسفنجات الذرّية”، قادرة على امتصاص الغازات، وتنقية المياه، وحتى استخراج الماء من الهواء الجاف.
يُعتبر ياغي الفلسطيني الأصل، المولود في الأردن عام 1965، والحامل للجنسيتين السعودية والأميركية ،رائد الكيمياء الشبكية Reticular Chemistry ، وهي علم تصميم مواد جديدة عبر ربط الجزيئات في شبكات هندسية منتظمة.
في خطاب تسلّمه الجائزة، قال ياغي : “الكيمياء ليست مجرّد علم لتحليل الطبيعة، بل لغة لبناء المستقبل”.
واليوم، تُستخدم ابتكاراته في مشاريع بيئية وصناعية، من بطاريات الهيدروجين إلى أجهزة تحلية الهواء، ما جعل فوزه رمزًا للتحوّل من العلم الأكاديمي إلى العلم الإنساني.
View this post on Instagram
وفي الوقت الحالي، تتجه الأنظار إلى تطبيقات أبحاث ياغي وزملائه في مجالات الطاقة النظيفة ومعالجة التلوث.
فمواد الـ MOFs تُعدّ مفتاحًا واعدًا في تطوير بطاريات أكثر كفاءة، ووسائل تخزين للهيدروجين، وتقنيات لالتقاط ثاني أكسيد الكربون، بل وحتى لتبريد الأبنية أو إنتاج مياه الشرب في المناطق القاحلة.
ويُتوقع أن تُسهم هذه المواد خلال العقد المقبل في بناء مدن أكثر استدامة، حيث يمكن أن تعمل الواجهات والأنظمة البيئية كمصفاة ضخمة للهواء.
بهذا الإنجاز، تتجاوز مساهمة ياغي حدود المختبر إلى فلسفةٍ جديدة في التفكير العلمي: أن يكون الاكتشاف وسيلةً لإعادة التوازن بين الإنسان والطبيعة.
نوبل الفيزياء: النفق الكمومي يفتح آفاقاً جديدة
View this post on Instagram
كانت جائزة نوبل في الفيزياء لثلاثة علماء هم جون كلارك، ميشال دوفوريه، وجون مارتينيز لإثباتهم أنّ ظاهرة النفق الكمومي المعروفة في عالم الذرات الصغيرة تظهر أيضاً في أنظمة أكبر بكثير. فقد بنى الفائزون تجربة بدارة كهربائية فائقة التوصيل تجمعت فيها شحنات كهربائية فتصرّفت معاً كأنها جسيم واحد ضخم، وتمكّنت هذه «الجسيمات الكهربائية» من عبور حاجز كما لو أنها حُفرت فيه نفقاً. في عالمنا العادي، الكرة سترتد دوماً عند اصطدامها بجدار، لكن في هذا المختبر رأى العلماء أنّ المجموعة الكمومية استطاعت اختراق الجدار، ما يجسّد سلوكاً غريباً تنتجه ميكانيكا الكم على مستوى يمكن رؤيته.
View this post on Instagram
وأشارت لجنة جائزة نوبل إلى أنّ هذا الاكتشاف يمهد الطريق لتقنيات كمومية جديدة قد تُحدث ثورة في حياتنا. وتشمل بعض مجالات التطبيق المحتملة:
الحوسبة الكمومية: يمكن لهذا الاكتشاف أن يمهّد لبناء حواسيب كمومية فائقة القوة، قادرة على حل مسائل معقدة بسرعة هائلة مقارنةً بالحواسيب التقليدية.
الاتصالات المشفرة الكمومية: ستُستخدم مبادئ ميكانيكا الكم في تطوير شبكات اتصال فائقة الأمان عبر التشفير الكمومي، حيث يصعب على أي جهة اعتراض البيانات التي ترسلها هذه الشبكات.
التكنولوجيا الطبية المتقدمة: تمتلك أجهزة الاستشعار الكمومية دقة وحساسية غير مسبوقة، ما يجعلها واعدة لتطوير تقنيات التصوير الطبي والكشف المبكر عن الأمراض. فمثلاً، قد تساعد حساسات مغناطيسية فائقة الحساسية في تصوير أعصاب المخ أو الجزيئات الحيوية بدقة غير ممكنة اليوم.
أجهزة الاستشعار الفائقة: تُستخدم التأثيرات الكمومية لابتكار حساسات تقيس البيئة والتغيرات الفيزيائية بدقة بالغة. قد تستفيد منها مجالات مثل مراقبة الصحة والبيئة، وتطوير أجهزة ذكية قائمة على فيزياء الكم.
كل هذه الاحتمالات تشير إلى مستقبل مشرق تقوده التكنولوجيا الكمومية، حيث تتحول مفاهيم غامضة اليوم إلى أدوات تخدم الإنسان. ومع كل خطوة نحو فهم «العوالم غير المرئية» في الطبيعة، نقترب من فتح أبواب جديدة لخدمة البشرية.
نوبل… بين العبقرية والمسؤولية
View this post on Instagram
على مدى 124 عامًا، منحت جوائز نوبل أكثر من 600 فائز من مختلف القارات. ومع كل دورة، يتجدد السؤال: هل تكفي الجوائز لتغيير العالم؟
ربما لا تغيّر الجوائز الواقع مباشرة، لكنها تُضيء الطريق أمام أولئك الذين يؤمنون بأنّ فكرة واحدة أو اكتشافًا واحدًا يمكن أن يجعل المستقبل أفضل.
في عام 2025، بدا هذا المعنى أكثر وضوحًا من أي وقت مضى: فبين تجربةٍ كمومية في مختبر، وابتكارٍ يُحوّل الهواء إلى ماء، تؤكد نوبل أنّ العبقرية لا تكتمل إلا حين تخدم الإنسان.