فقاعة الذكاء الاصطناعي: كيف تغيّر الخوارزميات مستقبل الوظائف وسوق العمل العالمي

تشهد السنوات الأخيرة صعودًا هائلاً فـي الاستثمارات والتقييمات المرتفعة لشركات الذكاء الاصطناعي والشركات التقنية العملاقة الداعمة لها. وبات «تزايد الحديث فـي الأوساط الاقتصادية والاستثمارية عن فقاعة الذكاء الاصطناعي» واقعًا ملموسًا، وسط تقييمات خيالية وسباقات تمويل غير مسبوقة، وبنى تحتية ضخمة لم تُثبت ربحيتها بعد.
بينما يرى البعض أنّ ما يحدث امتداد طبيعي لثورة تقنية جديدة، يحذّر آخرون من أننا نعيش سيناريو شبيهًا بفقاعة الإنترنت لعام 1999. ولتوضيح النمو المتسارع فـي القطاع، تشير بيانات بلومبرغ إلى أنّ الشركات الناشئة فـي مجال الذكاء الاصطناعي حصدت تمويلات تجاوزت 193 مليار دولار فـي عام 2024 وحده. وتعزو التحليلات هذا التدفق الكبير إلى عوامل منها الحماس الاستثماري «الخوف من تفويت الفرصة» والبناء المضطرد لمراكز بيانات وبنى تحتية ضخمة للتعلم العميق.
التغيّرات فـي الوظائف التقليدية بفعل أدوات الذكاء الاصطناعي

أدّى انتشار أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدية مثل ChatGPT وDALLE-2 وغيرها، إلى تغيير جذري فـي طبيعة بعض المهام التقليدية. فبينما تعزّز هذه الأدوات الإنتاجية أحيانًا بمساعدة العاملين مثلما وجدت دراسات تشير إلى زيادة الإنتاجية فـي مهام خدمة العملاء والكتابة بعد إدخال أدوات الذكاء الاصطناعي، فإنها في الوقت نفسه بدأت تؤدّي مهامًا كان يقوم بها البشر. وعلى المستوى العالمي، وجدت دراسة حديثة أنّ فرص العمل فـي المجالات التي دخلها الذكاء الاصطناعي التوليدي قد شهدت تراجعًا ملموسًا: انخفض عدد العقود الجديدة بنسبة حوالي 2 فـي المئة وتراجع متوسط الدخل بنسبة نحو 5 فـي المئة بعد إطلاق النماذج المتقدمة فـي 2022.
View this post on Instagram
وهذا يشير إلى أنّ بعض المهام التي كانت تؤدّيها الجهات الحرة، مثل التحرير وتحرير النصوص، يمكن أن تنجذب جزئيًا إلى هذه الأدوات. مع ذلك، يؤكد بعض الخبراء أنّ طبيعة الاستخدام الحالي تظل تكاملية؛ فقد وصف باحث هارفارد ديفـيد ديمينغ استعمال ChatGPT فـي العمل والدراسة: “كان أكثر عمومية وعملية مما توقّع، إذ اُستُخدم كمساعد أو مستشار إضافـي، بدلاً من أن ينفّذ المهام بالكامل دون تدخل بشري”.
الوظائف المهدّدة فعليًا
تتباين التوقّعات حول الوظائف الأكثر عرضة للخطر بفعل الذكاء الاصطناعي التوليدي. من أمثلة القطاعات التي بدأت تشهد تداعيات واقعية واضحة:

الصحافة وصناعة المحتوى الكتابي: حلّت أنظمة الذكاء الاصطناعي فـي بعض الحالات محل المحرّرين والكتّاب. فعلى سبيل المثال، استبدلت بوابة MSN الإخبارية العشرات من الصحفـيين ببرامج توليد محتوى ذكاء اصطناعي. وتُظهر اختبارات داخلية أيضًا أنّ نماذج الذكاء الاصطناعي الحديثة تفوّقت على البشر فـي نسبة بلغت 75 فـي المئة من مهام التحرير النصي.

خدمة العملاء والدعم الفني: استخدمت شركات كثيرة روبوتات دردشة Chatbots لتحلّ مكان جزء كبير من موظفـي مركز الاتصالات. فقد أعلنت شركة Dukaan الهندية عن استبدال 90 فـي المئة من فريق دعم العملاء بروبوت شات بوت داخلي، تحقيقًا لتوفير نحو 85 فـي المئة فـي التكاليف وتقليل زمن الانتظار. وحتى شركات التجزئة الكبرى قلّصت وظائف مراكز الاتصالات باستخدام الذكاء الاصطناعي، كما أعلنت IKEA عن إلغاء وظائف مركز الاتصال لديها واستبدالها بروبوت اسمه «بيلي»، مع تدريب العاملين المتبقين على مهام جديدة.

التصميم والإعلان: أدّت أدوات توليد الصور والنماذج الأولية إلى انخفاض الطلب على بعض أدوار التصميم التقليدية. فقد أوقفت وكالة BlueFocus الصينية عقود موظفـي المحتوى والمصمّمين بالكامل لصالح نظم ذكاء اصطناعي. كما قطعت شركات تقنية كبرى أكثر من 100 وظيفة فـي أقسام التصميم لديها مثل غوغل التي خفّضت وظائف التصميم بأكثر من مئة منصب بعد ضخ استثمارات هائلة فـي بنية الذكاء الاصطناعي.

المهام البرمجية الأولية: رغم عدم توفر إحصائيات تفصيلية بعد، تثير أنظمة مثل GitHub Copilot وChatGPT مخاوف من أنّ بعض مهام كتابة الكود الروتينية قد يتم أتمتتها جزئيًا، فتشغل النماذج تفاصيل البرمجة الصغرى بينما يوجه المبرمجون جهودهم نحو المشاريع الكبيرة.

المجالات الروتينية واليدوية: وجدت OpenAI فـي تحليل داخلي أنّ نماذجها تفوّقت على الإنسان فـي 81 فـي المئة من المهمات المتعلّقة بالتأجير والاستقبال المكتبي، وحقّقت نسبًا عالية فـي مجالات الشحن والتوزيع وصلت إلى 76 فـي المئة وبينما وصلت إلى 56 فـي المئة فـي مبيعات التجزئة. بالمقابل، بقي القطاع الإعلامي (المشرفون الإبداعيون والفنانون) أقل تأثرًا حيث سجلت النماذج أداءً يبلغ 39 فـي المئة فقط.
مجالات جديدة ومتزايدة الطلب

فـي المقابل، أطلقت الثورة التكنولوجية وظائف ومجالات عمل جديدة أو زادت الطلب عليها بشكل ملحوظ. من أبرزها: تدريب النماذج والإشراف عليها، حيث كثّفت الشركات الجهود لتجميع البيانات وتنقيتها ودعم مهندسي الذكاء الاصطناعي. وظهرت أدوار جديدة مثل مهندس التحفيز Prompt Engineer الذي يتخصّص فـي صياغة استعلامات دقيقة للنماذج التوليدية، وإدارة عمليات التدرب والتصحيح المستمر للنماذج. كما نشأت وظائف الأخلاقيات والحوكمة الخاصة بالذكاء الاصطناعي، حيث دعا منتدى الاقتصاد العالمي عام 2021 إلى تعيين «كبير مسؤولي أخلاقيات الذكاء الاصطناعي»، وذكر تقرير أنّ شركات كثيرة ستحتاج إلى أدوار مثل «اختصاصي أخلاقيات الذكاء الاصطناعي» أو «مدير الثقة» للتعامل مع تحدّيات المسؤولية واستخدام التقنية. أما التوظيف الاستراتيجي، فقد برز بشكلٍ خاص: إذ لجأت كبرى الشركات إلى ما يعرف بالاستحواذ لأجل التوظيف Acquihiring، حيث اشترت شركات ناشئة ليس من أجل منتجاتها بل لفرقها الهندسية المتميّزة.
View this post on Instagram
مثال ذلك استحواذ OpenAI على شركة Windsurf المختصة بأدوات برمجة ذكاء اصطناعي بقيمة ثلاثة مليارات دولار من أجل انتداب فريقها الهندسي. هذه الاتجاهات تؤكّد أنّ العنصر البشري وما يملكه من مهارات ذكاء اصطناعي متخصّصة أصبح سلعة ثمينة، ما يفتح مجالات عمل جديدة مثل مشرفي جودة نظم الذكاء الاصطناعي، ومحلّلي سياسات الذكاء الاصطناعي والخصوصية.
آراء الخبراء: مرحلة انتقالية أم تهديد مستدام؟

تتباين الآراء بين التفاؤل الحذر والتشاؤم بشأن أثر فقاعة الذكاء الاصطناعي على العمل. من جهة، يشبّه بعض الخبراء الوضع بما حدث فـي فقاعات سابقة، وأشار بريت تايلور مدير OpenAI إلى أنّ المشهد يشبه فقاعتي الإنترنت والتكنولوجيا الحيوية: سيؤدّي ذلك إلى انهيار شركات كثيرة، لكنه سيسفر أيضًا عن ولادة عمالقة جدد مثلما ولدت غوغل وأمازون. وينظر جيف بيزوس إلى الأمر باعتباره فقاعة صناعية قد تؤدّي إلى خسارة مستثمريها لأموالهم، لكنها فـي النهاية ستعود بالنفع الكبير على المجتمع من خلال تطوّرات تقنية جديدة. من منظور معارض، حذّر مسؤولون من تشكّل «فقاعة مدفوعة بالضجيج» فـي تمويل الشركات الناشئة، وأعرب آخرون عن قلقهم من أنّ الترهل التنظيمي قد يؤجج تباطؤ فـي خلق الوظائف قبل أن تستقر الأمور. ومن بين أبرز الأصوات الحذرة، أشار رئيس الاحتياطي الفـيدرالي جيروم باول إلى أنّ الذكاء الاصطناعي قد يكون سببًا فـي تراجع التوظيف بين الخريجين الجدد، لكنه قال صراحةً إنّ هذه «بعض التأثيرات لكنها ليست المحرك الرئيسي» لتباطؤ سوق العمل. وفي الجانب ذاته، طالب سام ألتمان (OpenAI) بتركيز الجهود على التدريب والتنظيم لضمان انتقال سلس. بشكلٍ عام، يمكن القول إنّ الآراء تتراوح بين كونها مرحلة انتقاليّة لاستيعاب تقنية ثورية وبين احتمال أن يؤدّي الإفراط فـي الاستثمار إلى «فرقعة فقاعة» مؤلمة على المدى القصير.
أمثلة حقيقية: شركات خفّضت أو أعادت تشكيل قوتها العاملة
View this post on Instagram
ظهرت بالفعل أمثلة عملية عديدة لشركات قلّصت أو أعادت هيكلة فرق عملها تحت ضغط الأتمتة والذكاء الاصطناعي. فقد صرّحت مؤسستان ماليتان ضخمتان JPMorgan وKlarna بأنهما خفّضتا من عدد العاملين بفضل قدرات الذكاء الاصطناعي على أتمتة بعض المهام الروتينية. وعلى غرار ذلك، أعلن جيف بيزوس أنّ أمازون ستستخدم الذكاء الاصطناعي لتقليص «القوى العاملة الإجمالية»، مع تحقيق مكاسب فـي الكفاءة عبر التطبيق الواسع للتقنية. وفـي سياقات أوسع، قامت شركات كبرى برحلات تسريح واسعة: فمثلاً، خفّضت مايكروسوفت نحو 15 ألف وظيفة خلال ٢٠٢٤-٢٠٢٥ فـي سبيل تعظيم العائد على استثماراتها فـي الذكاء الاصطناعي، وقلّصت غوغل مئات الوظائف فـي مجال التصميم بينما كانت تضخّ عشرات المليارات فـي بنى تحتية للسحابة والذكاء الاصطناعي.
View this post on Instagram
وفي قطاع الخدمات، أعلنت Salesforce عن إلغاء 4 آلاف وظيفة دعم فني بحجة أنّ منصّتها الذكية الجديدة جعلت الحاجة لملء تلك المناصب أقل ضرورة. كذلك، شهدت شركات شحن ولوجستيات عالمية مثل UPS تقلّصًا كبيرًا فـي موظفيها (20 ألف وظيفة) بعد تطبيق تقنيات التعلم الآلي لأتمتة الكثير من العمليات الداخلية. وحتى قطاع الاتصالات فـي الهند خضع لمفاجأة؛ إذ أعلنت Dukaan فـي يوليو 2023 أنها حوّلت 90 فـي المئة من موظفـي دعم العملاء إلى روبوت دردشة صناعي. فـي المقابل، حاولت بعض الشركات مواجهة الضغط بإعادة التكيف: فمثلاً عمدت IKEA إلى إحلال بوت ذكاء اصطناعي (Billie) فـي خدمات العملاء مع تدريب آلاف الموظفـين المتأثرين على وظائف استشاري الديكور الداخلي. وهذه الأمثلة تؤكد أنّ الذكاء الاصطناعي بات عامل تغيير ضاغط فـي قرارات التوظيف وإعادة هيكلة القوى العاملة لدى كبرى المؤسسات.
انفجار الفقاعة أم تأسيس واقع جديد؟

يبقى السؤال المركزي: هل ستنتهي هذه «الفقاعة» بانفجار مؤذي للسوق، أم ستتطوّر تدريجيًا إلى واقع وظيفـي جديد؟ الإجابات تميل إلى رؤية متوازنة. من جهة، يشير الكثير من المحلّلين إلى أنّ الإفراط فـي التقييمات قد يؤدّي حتماً إلى تصحيح حاد، ربما حتى انكماش مؤقت فـي التشغيل؛ فالفقاعات التاريخية شهدت فـي نهاياتها انهيارات مفاجئة لشركات استثمرت أموالاً طائلة قبل جني عوائدها. ومن جهة أخرى، يؤكد الخبراء أنّ الذكاء الاصطناعي ثورة حقيقية لا يمكن تجاهلها، وأنّ الحفاظ على الإنفاق الرأسمالي والبنية التحتية سيؤتي ثماره على المدى البعيد كما حدث مع فقاعات سابقة خسر فيها البعض وأفلست شركات، لكنها أنتجت فـي المقابل تكنولوجيات تحوّلت إلى أعمدة اقتصادية لاحقاً. وقد وجدت دراسات أولية مثل تحليل جامعة ييل لـ ChatGPT أنه حتى منتصف 2025 لم يحدث انكماش واضح فـي نسب التوظيف أو زيادة في البطالة بسبب الذكاء الاصطناعي، ما يشير إلى أنّ تأثير الأدوات الجديدة ربما أكثر تعقيدًا ومرحليًا من أن يكون مباشرًا وطاحنًا. وفـي النهاية، يبدو أنّ الواقع المستقبلي سيتشكل عند تحقيق التوازن بين تشجيع الابتكار وضبط الحماسة المفرطة. فإذا بقيت سياسات الحماية والتأهيل المهني مواكبة للتغير، فقد يتحوّل إنفجار الفقاعة إلى انطلاق تدريجي لمنظومة عمل جديدة، حيث يتكامل البشر مع الآلات الذكية. أما إذا فقد المستثمرون والدول سيطرتهم وسط الاندفاع، فقد يُخلف ذلك تداعيات سلبية مشابهة للفقاعات التاريخية.










