معركة الختام: جائزة أبوظبي الكبرى.. مسرح التاريخ يبدأ من هنا

مع اقتراب إسدال الستار على موسم الفورمولا 1، تتجه الأنظار دائمًا إلى حلبة مرسى ياس في أبوظبي. ليست مجرد نهاية موسم، بل هي ملتقى الدراما، محطة التتويج، ومولد الحكايات الجديدة التي تُخلد في تاريخ هذه الرياضة العريقة. فما الذي يجعل من سباق أبوظبي، الذي يراه البعض هادئًا، مسرحًا للبطولات الكبرى واللحظات التاريخية؟
أبوظبي: نهاية الموسم وبداية الحكايات

تتميز جائزة أبوظبي الكبرى بعناصر فريدة تجعلها مختلفة عن باقي السباقات وتحمل ثقلاً عاطفيًا وتاريخيًا لا يستهان به.
سباق يمتد من الغروب إلى الليل: يبدأ السباق وقت الغروب الساحر وينتهي ليلاً تحت الأضواء الكاشفة، ما يمنح المشهد بعدًا سينمائيًا يخطف الأنفاس، ويضفي جواً بصرياً لا يوجد في أي سباق آخر على الروزنامة.
View this post on Instagram
مهرجان الفورمولا 1: تحوّل أبوظبي السباق إلى ما يشبه مهرجان F1 بحد ذاته. يُظهر المنظمون اهتمامًا استثنائيًا بالسائقين والفرق والزوار على حد سواء. يُعد هذا السباق بوابة الشرق الأوسط للفورمولا 1، ولهذا يحظى باهتمام عالمي مكثف من وسائل الإعلام والنجوم والشخصيات البارزة.

النهاية وبداية جديدة: ليس سباق أبوظبي نهاية موسم فحسب، بل هو أيضًا خط انطلاق للموسم الجديد. فبمجرد عبور السيارة الأخيرة لخط النهاية، تبدأ الفرق على الفور في تطوير سيارات الموسم المقبل، ويعلن السائقون عن انتقالاتهم المثيرة، وقد نشهد دخول فرق جديدة في غمار المنافسة. إنها محطة فاصلة تجمع بين الوداع والترقب.
لحظات لا تُنسى: محطات خالدة في تاريخ حلبة مرسى ياس
View this post on Instagram
وعلى مر السنين، لم يكن سباق أبوظبي مجرد جولة أخيرة، بل كان شاهدًا على أحداث غيرت مسار الفورمولا 1، وصنعت أبطالًا، وودعت أساطير. إليكم أبرز المحطات التي طُبعت في ذاكرة السباق.
عام 2021: معركة اللقب الأسطورية التي غيرت تاريخ الفورمولا 1
View this post on Instagram
لا يزال لقب عام 2021 في أبوظبي الحدث الأكثر إثارة للجدل في تاريخ الفورمولا 1 الحديث، حيث حُسم فعليًا في اللفة الأخيرة بعد موسم كامل من المنافسة الشرسة والمتكافئة بين لويس هاميلتون وماكس فيرستابن.
اللفة الأخيرة التي غيرت كل شيء
View this post on Instagram
قبل اللفة الأخيرة، كان هاميلتون متصدرًا بفارق مريح وبدا في طريقه لحصد لقبه العالمي الثامن. لكن الدراما بدأت قبل خمس لفات من النهاية، عندما اصطدمت سيارة نيكولاس لاتيفي، ما أدى إلى دخول سيارة الأمان. هنا بدأت سلسلة القرارات المثيرة للجدل: كان هاميلتون على إطارات قديمة، بينما استغل فيرستابن الفرصة للتوقف وتبديل إطارات سوفت جديدة. وأعلنت إدارة السباق في البداية أن السيارات المتأخرة لن يُسمح لها بتجاوز سيارة الأمان. بعد ثوانٍ، تغير القرار بشكل مفاجئ، حيث سُمح للسيارات المتأخرة بين فيرستابن وهاميلتون فقط بفك اللفة، وليس كل السيارات كما تنص القوانين. سُحبت سيارة الأمان فورًا، رغم أن القوانين كانت تتطلب لفة إضافية قبل استئناف السباق. هذه القرارات منحت فيرستابن فرصة ذهبية. مع استئناف السباق في اللفة الأخيرة، كان خلف هاميلتون مباشرة على إطارات جديدة، وتجاوزه في المنعطف الخامس بعد معركة قصيرة. حاول هاميلتون الرد لكن دون جدوى، ليتوّج ماكس فيرستابن بلقبه العالمي الأول في مشهد دراماتيكي غير مسبوق.
لماذا لا يُنسى هذا الحدث؟
حسم لقبًا عالميًا في اللفة الأخيرة بهذا الشكل الدرامي للمرة الأولى.
أثّر بشكل جذري على قوانين إدارة السباقات وتمت إقالة مدير السباق مايكل ماسي لاحقًا.
شكل بداية حقبة هيمنة فيرستابن على البطولة.
حرم هاميلتون من الرقم القياسي التاريخي (8 بطولات).
وداع الأسطورة: أبوظبي 2022 شهد نهاية مسيرة سيباستيان فيتيل

في يوليو 2022، أعلن سيباستيان فيتيل، أحد أعظم السائقين في تاريخ الفورمولا 1، اعتزاله مع نهاية الموسم. أكد فيتيل أنه يرغب في التركيز على عائلته واهتماماته خارج السباقات، مشيرًا إلى أن أهدافه قد تغيرت ولم يعد يركض من أجل الفوز فقط. أنهى فيتيل سباقه الأخير في المركز العاشر، محققًا نقطة وحيدة، لكن السباق كان مشحونًا بالعاطفة. تلقى تحيات زملائه السائقين قبل الانطلاق، وقام بلفة احتفالية مميزة بعد النهاية.
كيف كان الوداع؟

شكّل السائقون حرس شرف له قبل السباق، في لفتة احترام وتقدير. وقدم فريقه أستون مارتن تكريمًا خاصًا بفيديو مؤثر يلخص مسيرته. ووصف فيتيل اللحظة بأنها عاطفية وشعر بفراغ بعد إنهاء مسيرة استمرت 16 عامًا وحفلت بالألقاب والانتصارات. رأى الكثيرون في اعتزاله نهاية حقبة، ليس فقط بصفته سائقًا كبيرًا، بل لصدقه في مواقفه البيئية والإنسانية، وتركيزه على الحياة ما بعد الحلبات.
لحظة إنسانية: أبوظبي 2020 وتكريم رومان غروجان بعد نجاته

في جائزة أبوظبي 2020، كان هناك موقف مؤثر جدًا حين وقف السائقون احترامًا لرومان غروجان بعد نجاته المعجزة من الحادث الخطير الذي تعرض له في سباق البحرين قبل أسبوعين. كان الحادث من أشهر حوادث الفورمولا 1 الحديثة لشذوذه، وانتهى بسلام نسبي بفضل أنظمة السلامة المتطورة التي سمحت لغروجان بالخروج من السيارة مصابًا بحروق في يديه، ما منعه من خوض السباقين الأخيرين للموسم.
يوم السباق وقبل الانطلاق
View this post on Instagram
وقف جميع السائقين في صف واحد، وشكلوا خطًا على الحلبة، رافعين قبعاتهم في مشهد يعبر عن الاحترام العميق. حضر غروجان التكريم عبر الفيديو لأنه كان لا يزال يتلقى العلاج، وظهر برسالة شكر مؤثرة. كما كُرم طاقم السلامة والمسعفين وطواقم الحلبة الذين أنقذوا حياته من قبل الاتحاد الدولي وفرق الفورمولا 1.
لماذا كان المشهد مهمًا؟
أظهر وحدة وتضامن مجتمع الفورمولا 1 في أوقات الشدائد.
أكد الأهمية الكبيرة والتطور في معايير السلامة بالرياضة.
كان لحظة وداع غير رسمية لغروجان في الفورمولا 1، حيث لم يعد بعدها للمنافسة.
تتويج ملك: لويس هاميلتون يحصد لقبه الثاني في أبوظبي 2014

كان تتويج لويس هاميلتون ببطولته الثانية في أبوظبي 2014 من أجمل وأقوى اللحظات، فقد حسم لقبًا مثيرًا في نهاية موسم مليء بالتنافس الشرس مع زميله في الفريق نيكو روزبرغ. وشهد موسم 2014 بداية حقبة المحركات الهجينة V6، وكانت مرسيدس تسيطر بشكل كامل. المنافسة الحقيقية كانت داخل الفريق بين هاميلتون وروزبرغ. قبل السباق، كان هاميلتون متصدرًا بفارق 17 نقطة. لكن أبوظبي كانت تمنح نقاطًا مضاعفة لأول مرة ولآخر مرة في التاريخ، حيث يحصل الفائز على 50 نقطة بدلاً من 25، ما جعل اللقب متاحًا لكلا السائقين. انطلق هاميلتون من المركز الثاني خلف روزبرغ، وكانت انطلاقته ممتازة حيث تجاوز روزبرغ فورًا. حاول روزبرغ التمسك بالمنافسة، لكن سيارته واجهت مشكلة في نظام الطاقة (ERS)، وفقد الطاقة الكهربائية، مما أبطأه كثيرًا وبدأ يتراجع حتى خرج من مراكز النقاط. رغم محاولة الفريق إعادته للمنافسة، بقي روزبرغ يعاني ورفض في النهاية أوامر الفريق بالدخول إلى المرآب، وأكمل السباق احترامًا للمنافسة.
خط النهاية وتتويج هاميلتون

فاز هاميلتون بالسباق والبطولة، ليحصد لقبه العالمي الثاني. كانت لحظة عاطفية للغاية، وظهر هاميلتون متأثرًا جدًا عبر الراديو قائلاً: “هذا هو أعظم يوم في حياتي”. كان والده ينتظره على خط النهاية، في مشهد إنساني من أجمل لحظات الفورمولا 1.
لماذا سباق أبوظبي 2014 مهم تاريخيًا؟
حسم اللقب بين زميلين في فريق واحد في معركة نظيفة وطويلة.
المرة الوحيدة التي استخدمت فيها النقاط المضاعفة في نهاية الموسم.
بداية حقبة هيمنة هاميلتون-مرسيدس التي استمرت لسنوات.
السباق الذي أدى لاحقًا إلى صعود التوترات بين هاميلتون وروزبرغ حتى اعتزال الأخير بعد لقب 2016.
مفاجأة 2010: سيباستيان فيتيل يتوّج أصغر بطل للعالم في أبوظبي
View this post on Instagram
حسم سباق أبوظبي 2010 البطولة بطريقة دراماتيكية لم تكن متوقعة، حيث توج سيباستيان فيتيل بلقبه الأول.
معركة رباعية: كان فيتيل ينافس على اللقب مع فرناندو ألونسو (فيراري)، ومارك ويبر (ريد بُل)، ولويس هاميلتون (مكلارين). المفاجأة أن فيتيل لم يكن متصدرًا للبطولة قبل السباق، وكان الكثيرون يتوقعون اللقب لألونسو.
ماذا حدث في السباق
انطلق فيتيل من المركز الأول وسيطر على السباق من البداية للنهاية. لكن فيراري أخطأت استراتيجيًا عندما أوقفت ألونسو مبكرًا، ما جعله يعلق خلف سيارة فيتالي بيتروف (رينو) ولم يتمكن من تجاوزه. كذلك، عانى مارك ويبر ولم يتمكن من التقدم. هذه الأخطاء منحت فيتيل الفوز بالسباق بكل أريحية، وحقق النقاط الكافية لتخطي ألونسو وويبر في الترتيب النهائي. والنتيجة كانت فيتيل بطل العالم للمرة الأولى، ليصبح أصغر بطل عالم في تاريخ الفورمولا 1 في ذلك الوقت. كان هذا اللقب الأول لفيتيل، وأول لقب للصانعين لفريق ريد بُل ريسينغ.
لماذا يُعد هذا الفوز تاريخيًا؟
حسم اللقب رغم أن فيتيل لم يكن المتصدر قبل السباق.
بسبب الخطأ الشهير لفيراري الذي أضاع اللقب على ألونسو.
بداية حقبة هيمنة فيتيل-ريد بُل التي امتدت لأربع بطولات متتالية (2010-2013).
صوت الوداع: أبوظبي 2013 وإسدال الستار على حقبة محركات الـV8
View this post on Instagram
يحتفظ سباق أبوظبي 2013 بمكانة خاصة لدى عشاق الفورمولا 1، لأنه كان آخر سباق يُقام في حلبة مرسى ياس خلال حقبة محركات الـV8 ذات الثماني أسطوانات، قبل الانتقال في موسم 2014 إلى محركات V6 تيربو الهجينة. محركات الـV8 كانت معروفة بصوتها العالي والحاد المميز الذي يفتقده كثير من محبي الفورمولا 1 اليوم، والذي كان يعتبر جزءًا لا يتجزأ من تجربة السباق. مع 2014، بدأت حقبة المحركات الهجينة الأقل ضجيجًا لكن الأكثر تطورًا تقنيًا.
صراع الزملاء: أبوظبي 2016 ومعركة روزبرغ وهاميلتون الأخيرة

يُذكر سباق أبوظبي 2016 كثيرًا لأنه لم يكن سباقًا عاديًا؛ كان سباقًا مشحونًا بالتوتر، وشهد صراعًا على البطولة بين زميلين في نفس الفريق (هاميلتون وروزبرغ) بنفس السيارة تقريبًا. جعل هذا الأمر النتيجة معركة استراتيجية ونفسية بقدر ما هي سباق سرعات، وأظهر مدى اللعب الذهني داخل الفورمولا 1: ليس فقط السرعة ومهارة القيادة، بل التوقيت، الاستراتيجية، إدارة الضغط، وحتى لعبة العقل. أعطى سباق أبوظبي 2016 لقب بطل العالم الأول لروزبرغ، نقطة تحول في مسيرته، رغم أنه بعد فترة وجيزة أعلن اعتزاله المفاجئ. نجح هاميلتون في الفوز بالسباق، لكن هذا لم يكن كافيًا لحرمان روزبرغ من اللقب، حيث أنهى روزبرغ السباق في المركز الثاني، وهو ما ضمن له لقب بطل العالم لعام 2016.
الدراما داخل السباق

لم يقد هاميلتون السباق كسباق عادي؛ ففي اللفات الأخيرة، قام بتبطيء اللفة عمدًا، محاولًا دفع روزبرغ نحو مطارديه مثل ماكس فيرستابن وسيباستيان فيتيل، على أمل أن يفقد روزبرغ المركز الثاني أو ينهار ويتراجع، ليحصد هاميلتون اللقب. أرسل فريق مرسيدس تعليمات عدة لهاميلتون لزيادة السرعة، لكنه تجاهلها. رغم الضغوط، كان روزبرغ تحت ضغط كبير في البداية ومع هجوم من فيتيل في اللفات الأخيرة، لكنه نجح في الدفاع عن مركزه وضمان اللقب. وصف روزبرغ السباق بعده بأنه لم يكن أجمل سباق له رغم الفوز باللقب، فقد كان مليئًا بالتوتر والضغط والمخاطر.
أبوظبي 2025.. فصل جديد في كتاب الأساطير
View this post on Instagram
ومع اقترابنا من إسدال الستار على موسم 2025، تستعد حلبة مرسى ياس مرة أخرى لتكون الشاهد على آخر معركة. هذا العام، تتجه كل الأنظار نحو الصراع المحتدم على لقب فئة السائقين بين لاندو نوريس (مكلارين) وماكس فيرستابن (ريد بُل)، حيث يتقدم نوريس بفارق 12 نقطة فقط. في سيناريو حاسم، إذا تمكن فيرستابن من الفوز بسباق أبوظبي، فإن نوريس يحتاج إلى إنهاء السباق ضمن المراكز الثلاثة الأولى فقط ليضمن التتويج بلقبه العالمي الأول. وتتصاعد حدة الجدل حول إمكانية تطبيق أوامر الفريق في مكلارين، مع وجود زميله أوسكار بياستري الذي يتأخر بفارق 16 نقطة عن نوريس. وعلى الرغم من أن بياستري قد يجد نفسه في موقف لا يمكنه فيه الفوز بالبطولة بنفسه، إلا أنه يمتلك القدرة على مساعدة زميله. وقد صرح نوريس بأنه “لن يطلب من بياستري التخلي عن مركزه”، معتبراً السؤال “غير عادل”، بينما ترك بياستري الباب مفتوحاً بالقول إن الأمر “لم يُناقش بعد”. يأتي هذا السباق بعد جولة قطر الكبرى، حيث قلص فيرستابن الفارق بعد فوزه مستفيداً من خطأ استراتيجي في توقفات مكلارين، بينما حل بياستري ثانياً ونوريس رابعاً. كل هذه العوامل ترسم لوحة سباق مليئة بالتوتر والترقب، حيث قد تتداخل الحسابات والاستراتيجيات المعقدة مع اللمسات الإنسانية والرياضية في مشهد لا يُنسى. المؤكد أن أبوظبي ستفي بوعدها الدائم كمسرح للبطولات الكبرى، ومولد لحكايات تتجاوز مجرد السباق، تاركةً بصمتها العاطفية والتاريخية على قلوب عشاق الفورمولا 1 ومؤكدة مكانتها كواحدة من أهم وأعرق محطات هذه الرياضة العالمية.











