عمر ياغي… ثاني عربي يحصد نوبل الكيمياء عن اكتشاف يحوّل الهواء إلى ماء

في أحد أحياء عمّان البسيطة، وُلد عمر مؤنس ياغي، طفل فلسطيني لاجئ يحمل في عينيه الكثير من الأمل والإصرار لكن أحدًا لم يكن يتخيل أنّ هذا الطفل سيقف بعد ستة عقود على مسرح الأكاديمية الملكية السويدية ليحصد جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2025 عن اكتشاف قد يغيّر مستقبل الماء والطاقة على الأرض. ففي عالمٍ يزداد عطشًا للماء ونقاء الهواء، جاء إنجاز عمر مؤنس ياغي ليعيد تعريف الممكن في العلم. فبفضل أبحاثه في الكيمياء الشبكية، تمكّن من ابتكار موادٍ قادرة على التقاط الماء من الرطوبة الجوية حتى في الصحراء، واحتجاز ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي، وتخزين الهيدروجين والميثان كمصادر نظيفة للطاقة.
ثاني عربي يحصد نوبل الكيمياء
View this post on Instagram
يعتبر عمر ياغي الحاصل على شهادة الدكتوراه في الكيمياء من جامعة إلينوي الأميركية، من رواد الكيمياء الشبكية، وهو ثاني عربي يحصل على جائزة نوبل في الكيمياء بعد العالم المصري أحمد زويل، الذي حصل عليها عام 1999 لأبحاثه في مجال “الفيمتو ثانية”.
من لاجئ إلى عالم في قمة الهرم العلمي
View this post on Instagram
ولد عمر مؤنس ياغي النور عام 1965 في العاصمة الأردنية عمان لعائلة فلسطينية لاجئة تعود أصولها لقرية المسمية في قضاء غزة، وجاء ترتيبه السادس من بين 10 أبناء، ويقول عن هذه المرحلة “نشأت في مناخ عمان الصحراوي، وأدرك تماما قيمة الماء، ففي صغري كنت مسؤولا عن ملء خزانات المياه في منزلي، مع الالتزام بلوائح المياه المعمول بها في منطقتنا”.
وفي مطلع ثمانينيات القرن الـ20، هاجر إلى الولايات المتحدة لإكمال علمه بتشجيع من والده.
غادر عمر الأردن يحمل في حقيبته كتب الكيمياء وفضول لا يهدأ. بدأ دراسته في كلية صغيرة في نيويورك، حيث كان يقضي ساعات طويلة في المختبرات أكثر مما يقضيه في النوم. هناك اكتشف شغفه الحقيقي: بناء المادة من لا شيء.
وبين جدران جامعة إلينوي، حيث حصل على الدكتوراه، كانت أولى الشرارات التي قادته إلى الثورة العلمية التي ستُعرف لاحقًا باسم الكيمياء الشبكية (Reticular Chemistry).
الفكرة التي فتحت أبواب المستقبل
View this post on Instagram
لطالما كان حلم ياغي بابتكار مواد يمكن “تصميمها” ذرةً ذرة، كأنها لعبة من الليغو.
ومن هذا الحلم وُلدت الهياكل المعدنية-العضوية (MOFs) — شبكات بلورية دقيقة تتكوّن من روابط معدنية وجزيئات عضوية.
هذه المواد تشبه الإسفنج على المستوى الذري، تمتلك آلاف المسامات الصغيرة التي تستطيع احتجاز الغازات، وتنقية الهواء، وحتى استخلاص الماء من الرطوبة.
وقد قال ياغي في إحدى المقابلات: “كنت أريد أن أجعل الهواء مصدراً للحياة، لا مجرد شيء نتنفسه”.
ومع مرور السنوات، أصبحت مختبراته في جامعة بيركلي في كاليفورنيا موطنًا لأبحاث تُثير دهشة العالم: من تخزين الهيدروجين كوقود نظيف، إلى التقاط ثاني أكسيد الكربون، وصولًا إلى أجهزة تستخرج ماءً صالحًا للشرب من الهواء الجافّ في الصحراء.
مسيرة طويلة بين جامعات الولايات المتحدة ومختبراتها
View this post on Instagram
فور حصوله على الدكتوراه عيّن زميلاً في أبحاث ما بعد الدكتوراه في مؤسسة العلوم الوطنية في جامعة هارفارد واستمر فيها حتى عام 1992، وهو العام الذي شهد انتقاله إلى التدريس.
بدأ ياغي مسيرته المهنية أستاذًا مساعدًا في جامعة أريزونا، وفي الفترة بين 1999 و2006 عمل في جامعة ميشيغان وشغل فيها كرسي “روبرت دبليو باري” للكيمياء.
وفي الفترة بين 2006 و2012، أصبح أستاذًا في علم الكيمياء بجامعة كاليفورنيا، وهي من أكبر الجامعات العلمية بالولايات المتحدة، فضلا عن شغله كرسي “إيرفينغ وجين ستون” لعلوم الفيزياء، والذي يشغله أعضاء هيئة التدريس المتميزون في مختلف التخصصات في جامعة كاليفورنيا.
وترأس مركز المواد الشبكية في المعاهد الوطنية للكيمياء في تسوكوبا باليابان من 2009 إلى 2016.
عام 2012، انتقل للعمل في جامعة كاليفورنيا بيركلي، وتولى فيها منصب مدير المعمل الجزيئي في المختبر الوطني للعلوم، وهو مركز أبحاث أسس عام 1931 وترعاه وزارة الطاقة الأميركية.
كما أنه المدير المؤسس لمعهد بيركلي العالمي للعلوم العالمية، ومعهد كافلي للطاقة وعلوم النانو، والتحالف البحثي لولاية كاليفورنيا التابع لشركة “باسف”.
في مايو 2025، رقاه مجلس أمناء جامعة كاليفورنيا إلى رتبة أستاذ جامعي، وهو أعلى وسام شرف في الجامعة مخصص للعلماء الحاصلين على أعلى تمييز دولي، فضلاً عن توليه منصب أستاذية “جيمس ونيلتي تريتر” في الكيمياء.
من المختبرات إلى الأسواق
View this post on Instagram
وفي عام 2018، عرض المنتدى الاقتصادي العالمي في سويسرا عمله في استخلاص المياه من الهواء الصحراوي باستخدام الأطر المعدنية العضوية، على أنه أحد أفضل 10 تقنيات ناشئة.
وفي 2020، أسّس ياغي شركة “أتوكو”، التي تركز على تسويق تقدمه في تقنيات الأطر المعدنية العضوية والأطر التساهمية العضوية، اللذين يسهمان في توليد هواء وطاقة ومياه أنظف.
وفي العام التالي، أسهم في تأسيس شركة لتطبيق اكتشافاته في الكيمياء الشبكية لمعالجة التحديات في تخزين الهيدروجين.
وفي نوفمبر 2021، منحته المملكة العربية السعودية جنسيتها نظراً لكفاءته في مجال الكيمياء.
وفي 2022، عينته جامعة كاليفورنيا مديرًا لمعهد “باكار للمواد الرقمية من أجل الكوكب”، وهو معهد يهدف إلى استخدام الذكاء الاصطناعي لتطوير نسخ سهلة النشر وفعالة من حيث التكلفة، من الأطر العضوية المعدنية والأطر العضوية التساهمية للمساعدة في الحد من آثار التغير المناخي ومعالجتها.
كما بنى جهازًا نموذجيًا يوضح كيف يمكن للأطر العضوية المعدنية امتصاص ثاني أكسيد الكربون من الهواء وغازات المداخن.
الجوائز والأوسمة
View this post on Instagram
إلى جانب جائزة نوبل للكيمياء، التي تقاسمها مع سوسومو كيتاغاوا وريتشارد روبسون، تقديرًا لإسهامهم الثوري في ابتكار شكل جديد من العمارة الجزيئية يعرف باسم “الأطر الفلزية العضوية”، حصد ياغي عشرات الجوائز والنياشين العالمية نظير جهوده العلمية، ومن أبرزها:
جائزة كيمياء الحالة الصلبة من الجمعية الكيميائية الأميركية وشركة إكسون عام 1998.
ميدالية “ساكوني” للجمعية الكيميائية الإيطالية عام 2004.
جائزة برنامج الهيدروجين التابع لوزارة الطاقة الأميركية عام 2007.
وسام جمعية أبحاث المواد للعمل في النظرية والتصميم والتوليف وتطبيقات الأطر المعدنية العضوية عام 2007.
جائزة الجمعية الكيميائية الأميركية لكيمياء المواد عام 2009.
جائزة المئوية للجمعية الملكية للكيمياء عام 2010.
جائزة الصين للنانو عام 2013.
جائزة الملك فيصل العالمية في الكيمياء عام 2015.
جائزة الأكاديمية التركية للعلوم في العلوم الأساسية والهندسية عام 2016.
جائزة “سبايرز” التذكارية من الجمعية الملكية للكيمياء عام 2017.
وسام الملك الأردني عبد الله الثاني للتميز من الدرجة الأولى عام 2017.
جائزة الجمعية اليابانية لتنسيق الكيمياء الدولية عام 2017.
جائزة ألبرت أينشتاين العالمية للعلوم من المجلس الثقافي العالمي عام 2017.
جائزة غريغوري أمينوف من الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم عام 2019.
الميدالية الذهبية من الجمعية الكيميائية الألمانية 2020.
وسام “فيلهلم إكسنر” النمساوي عام 2023.
جائزة “إرنست سولفاي” البلجيكية للعلوم من أجل المستقبل عام 2024.
جائزة نوابغ العرب عن فئة العلوم الطبيعية 2024.
من المختبر إلى نوبل
View this post on Instagram
لم يكن طريق نوبل مفروشًا بالورود. لسنوات طويلة كان ياغي يُواجه شكوكًا من زملائه الذين رأوا فكرته “خيالية أكثر من أن تكون علمية” لكنه واصل البحث، مطمئنًا إلى أنّ الابتكار يولد من الإصرار، لا من الإجماع. يقول عمر ياغي إنّ أعظم ما في العلم ليس المعادلات أو الجوائز، بل القدرة على الحلم بواقعٍ أفضل.
بالنسبة له، الكيمياء ليست علمًا جامدًا، بل لغة تحكي قصة الإنسان مع الطبيعة: كيف يمكننا تحويل أكثر عناصرها بساطة — الهواء والماء — إلى أدوات للبقاء.