النرجيلة فـي الشرق والغرب
باتت النرجيلة تعرف رواجًا مضاعفًا فـي العديد من الدول العربية، وآخرها لبنان، حيث يصعب المرور قرب أي مقهى أو مطعم دون أن تطالعك مجموعات لمدخني النرجيلة. كما تمكّنت من إختراق المجتمعات الغربية منذ عقود قليلة، وأصبحت متوفّرة فـي حانات خاصة أو داخل بعض البيوت، بما فـي ذلك فـي أيدي المتنزهين فـي الحدائق العامة، وفـي محيط برج إيفل، بالرغم من وجود تشريعات تقونن التدخين ومسألة بيع وتدخين النرجيلة.
توصف النرجيلة من قبل محبّذيها «بالنعمة»، ومن قبل منتقديها «بالنقمة»، لا بل ذهب أحد الكتاب إلى حدّ وصفها «بالوباء» الذي سينتشر فـي كل قارة وبيت. تتضارب الآراء بشأن المصدر الأساسي للنرجيلة، كما تختلف تسميتها: «أرجيلة» فـي لبنان وسوريا وتركيا على سبيل المثال، و«شيشة» أو «نرغيلي» فـي المغرب العربي وفرنسا ،و«با-كونغ» و«بانغ» فـي الصين، و«ناركيل» أو «غليان» فـي بلاد فارس (حيث أدخل التبغ على الأرجح إليها من قبل البرتغاليين فـي القرن السادس عشر)، و«هابل بابل» أو «هوكا» فـي باكستان والهند وإنكلترا والولايات المتحدة، وهذه الكلمة الاخيرة قد تعني زجاجة أو إناء. وهناك من أرجعها إلى أفريقيا الشرقية، حيث وجدت نماذج بدائية شبيهة لها تعود الى القرن الرابع عشر فـي مغارة «لاليبيلا» فـي إثيوبيا، خلافًا لما كان قد أفاد به بعض الخبراء من أنها إبتكرت فـي الهند؛ وهناك من يؤكّد على أن مصدرها مصر أو تركيا.
مكوناتها
فـي الشكل، تتكون النرجيلة كما هو معروف، من قاعدة زجاجية تعبّأ لغاية النصف بالماء الصافـي أو الممزوج ببعض ماء الورد مثلاً؛ يتصل بها ويعلوها أنبوب بمثابة مدخنة خاصة بها ، يصل الى طبق معدني مصنوع غالبًا من النحاس الذي يمكن زخرفته؛ يعلوه التبغ (الأسود إن أمكن)؛ وفوقهم الفحم المعدًّ للإشتعال (فحم خشب البلوط على الأفضل)، مع فاصل من ورق الألومينيوم المثقوب بواسطة الدبابيس، يعمل كعازل حراري بين الفحم المتقد ومزيج التبغ وتوابعه، وهو فاصل يلاقي الكثير من الإعتراض من قبل بعض مراكز الدراسات التي تعنى بالصحة، خاصة إذا كانت نوعية الألومينيوم رديئة فـيصبح أكثر ضررًا عند تعرضه للحرارة. يتدلى من الأنبوب خرطوم طويل وفـي نهايته مبسم التدخين.
تختلف تركيبتها المتنوعة وفقًا لصنفها: فبالنسبة للـ«تاباميل» أو «المعسل» مثلاً، تتألف المادة التي يحرقها جمر النرجيلة، من مزيج من التنباك المخمر (٣٠ فـي المئة) ونسب متفاوتة، وإن مرتفعة (ربما ٧٠ فـي المئة)، من دبس السكر والغليسيرين والعسل، ولب فواكه مجففة ، كالتفاح والكرز والعنب، لإعطاء نكهة إضافـية للدخان. وبالنسبة «للجراك»، كما يسمى فـي تونس، لا عطور فـي تركبيته، إنما كمية أكبر من التبغ الصافـي. وهناك صنف يرتكز أساسًا على التنباك «العجمي» كما فـي لبنان وسوريا وتركيا.
سبب رواجها
يعود رواجها ربما إلى مذاقها الخاص، والى ما توفّره من إطار مساعد على الإسترخاء و«تنفـيس الهموم» كما يقال، ولكونها تخلق ظروفًا مؤاتية للإلتقاء وفقًا لطقوس وفنون محببة ، وضمن حلقات تشارك وتحادث وتسلية وأنس، على قاعدة التكامل والمساواة؛ إضافة الى أنها تحاكي حواس اللمس والسمع والشم والمذاق والنظر على السواء… كما أنها تلقى رواجًا إضافـيًا لدى شعوبنا، كونها تعزّز الشعور العام بالإنتماء الى هوية مجتمعية وثقافـية تتميّز بالخصوصية، بعيدًا عما تفرضه العولمة من توحيد للأنماط الفكرية والسلوكية. وللمفارقة، تذهب بعض المجموعات، ولا سيما فـي تركيا إلى حد الإعتقاد، أن دخان النرجيلة لا يفـيد فقط فـي تبديد الهموم، بل إنه «يحمي كذلك من المخاطر، ويبعد الأرواح الشريرة والكلاب الشاردة». ويقدّر عدد مدخني النرجيلة فـي العالم وفقًا لمنظمة الصحة العالمية بأكثر من مئة مليون شخص يوميًا، من فئة الشباب بشكل خاص، معظمهم من دول شرق أوسطية وأفريقية وآسيوية.
مضارها ومخاطرها
خلافًا للإعتقاد السائد بأن النرجيلة غير ضارة، أو أقل ضررًا من السيجارة أو السيجار ، لأنها تمر عبر «فـيلتر» الماء الذي يمتص منها النيكوتين جزئيًا، فإنه لا بد من التنبّه إلى بعض مضارها ومخاطرها، بالرغم من الخصوصية المجتمعية-الثقافـية التي تعطيها هالة معيّنة وبعض الحصانة، بوجه أي نوع من الإنتقاد.
صحيح أن البعض يميل إلى التشكيك بالحملات التحذيرية الممنهجة التي تستهدف النرجيلة وما تحتويه من مونوكسيد الكربون وقطران ونيكوتين، وما تتسبّب به من أمراض تنفسية ومستعصية، والقول بأن «جلسة نرجيلة» (فـي حدود الـ٤٥ دقيقة) توازي إستهلاك من ٢٠ إلى ٣٠ سيجارة (وهذا ما تنفـيه مصادر بحثية أخرى تعتبر بأنها توازي تدخين سبع سجائر فقط…).
وبقطع النظر عن دقة هذه الدراسات، فإن الحذر يبقى مستحسنًا فـي مطلق الأحوال. علمًا بأنه ما زالت تنظّم مؤتمرات للبحث فـي هذا الموضوع، تمعنًا فـي التدقيق والمعالجة، ومنها مؤتمرات دولية للخبراء عُقدت فـي أبو ظبي تحت عنوان «التنباك أو الصحة».
أ – مخاطر الإدمان
لا خطر فـي تدخين النرجيلة بحدّ ذاتها . إلاّ أن إستهلاكها بشكل منتظم وطويل الأمد قد يؤدّي الى حالة إدمان، وبالتالي إلى مخاطر مماثلة إلى حدّ ما لمخاطر السيجارة أو السيجار. كما يتوجس الأهل بشكل عام من إقبال أولادهم بعمر مبكر جدًا أحيانًاعلى التدخين.
ب – مخاطر خلط التنباك بمواد ضارة أخرى
إن المزيج العادي المستعمل لتدخين النرجيلة لا يقع بالطبع فـي خانة المخدّر .إلاّ أنه يصعب مراقبة ما يوضع فعلاً فـي هذا المزيج، وعلى سبيل المثال: هل التبغ المستعمل من نوعية جيدة أم لا؟ هل أضيفت إليه مواد إصطناعية ؟ ويذهب البعض إلى حدّ التساؤل والخشية من أن يضاف إليه القليل من المواد المخدّرة كالقنب كما هي الحال فـي بعض المجتمعات.
فـي هذا المجال ، فإن بعض الدول تتشدّد فـي مراقبة حركة بيع وتدخين الشيشة ، كما فـي المغرب مثلاّ (الذي كان على وشك منعها فـي المطلق) خوفًا من سوء إستعمالها لأغراض غير مشروعة.
وفـي هذا السياق ، تفـيد دراسة أجرتها مدرسة الطب فـي جامعة «بيتسبورخ» عام ٢٠١٦، نقلتها مجلة «سانتي ماغازين»، أن جلسة النرجيلة تعرّض الإنسان لمضار القطران بنسبة ٢٥ فـي المئة أكثر مما تتسبّب به السيجارة، وأن «مونوكسيد الكربون» الموجود فـي دخان النرجيلة أعلى بسبع مرات عن نسبته فـي السيجارة (أكان بسبب التبغ أو المواد الأخرى المحترقة كالأعشاب التي لا تبغ فـيها)، وأنها تحتوي على نسب تبقى عالية نسبيًا من النيكوتين، إضافة لمخاطر إنتقال بعض الأمراض من خلال إستعمال «المبسم» نفسه من قبل أشخاص عدّة.
وتؤكّد مصادر رسمية حكومية ودولية عديدة أخرى (كمنظمة الصحة العالمية التي تسعى للوصول إلى «عالم خال من التبغ»، ومستشفى «مايو كلينيك» فـي الولايات المتحدة) مثل هذه المعلومات، من خلال ماورد فـي الإتفاق-الاطار المعروف بالـFramework convention on tobacco control خاصة أن المدخنين يميلون أحيانًا إلى «إبتلاع» الدخان، لأنه يبدو لهم أقل ضررًا بسبب النكهات التي يوفرها المزيج، وإعتقادهم بأن نسبة النيكوتين شبه معدومة. يضاف الى ذلك، الضرر الناتج من إحتراق مواد أخرى غير التنباك خلال التدخين ، كدبس السكر والفحم (وهو قد لا يكون طبيعيًا فـي بعض الأحيان، ويمربدوره عبر
فاصل من ورق الألومينيوم).
النرجيلة من منظار الغرب نعمة أم نقمة؟
إنتشار الشيشة
أصبحت النرجيلة متوفّرة فـي العديد من الحانات والبارات فـي أوروبا وفـي الولايات المتحدة
نفسها، منذ حوالى عقد من الزمن، حيث باتت تستهوي شريحة من السكان الأصليين، وخاصة فئة الشباب منهم بنسب متفاوتة، إضافة لمن هم من أصل عربي، ويستهونها بشكل خاص بمناسبة متابعتهم مباريات كرة القدم أو المسلسلات التلفزيونية المشوقة… وقد يكون هذا الإقبال على الشيشة، فـي سعي من قبلهم لإيجاد بديل عن السيجارة، ولما يوفّره تدخينها من تواصل إجتماعي. إلاّ أنه ما زالت تسجل مع ذلك ، حملات من قبل بعض الأوساط المتزمتة أو المعنية بمحاربة التدخين، ضد ظاهرة رواج الشيشة فـي أوروبا، وربطها بصورة مغرضة أحيانًا بمشكلة تنامي أعداد اللاجئين، ما يشير إلى نوع من الشعور العدائي ضد الأجانب («كزينوفوبيا») بشكل عام. ويذهب البعض فـي هذا السياق، الى إتهام مدخني النرجيلة بالإكتفاء بالمراقبة الإنكفائية للحياة ، وهو ما يسمى بالإيطالية بالـ« فارنينتي»، عوض تكريس المزيد من الوقت لأنواع أخرى من الترفـيه أكثر تفاعلية أو إفادة لهم كالرياضة أو الفنون. تجدر الإشارة إلى أنه بدأت تصنع ماركات أوروبية من الشيشة كألـ kaya والـDschinni فـي ألمانيا، أو الـhookah فـي فرنسا، بما فـي ذلك الـشيشا الإلكترونية؛ بعد أن كانت كل من علامة «كريستوفل» و«باكارا» للكريستال، قد قامت بتصنيعها كهدايا طيلة عقود؛ كما أصبح بالإمكان شراء النرجيلة مباشرة عبر البريد الإلكتروني واليوتيوب فـي بعض الدول ، وهو ما أمسى تجارة بكل ما للكلمة من معنى.
تنظيم شروط بيع وتدخين النرجيلة
ذهبت معظم الدول، بما فـيها الدول الغربية، الى وضع تنظيمات تقونن شروط خدمة النرجيلة، ومنها: عدم إمكانية «بيع» التبغ إلاّ فـي أماكن تحدّدها الدولة التي تمتلك فـي الأساس الحق الحصري ببيعه؛ حظر «تدخين” النرجيلة داخل المؤسسات والأماكن العامة وجميع أشكال الترويج الظاهر لها؛ وحظر بيعها للقاصرين. حتى فـي تركيا، أصبح التدخين محظورًا بجميع أشكاله فـي المطاعم والبارات والملاهي، وفقًا للنصوص التشريعية التي إعتمدت إعتبارًا من التاسع عشر من يوليو ٢٠٠٩.
إستطلاعات فرنسية
أظهرت إستطلاعات رأي معدّة من قبل مراكز طبية أو علمية فـي فرنسا، أن معدل عمر مدخني النرجيلة هو ٢٢ سنة، وأن ٨٧ فـي المئة منهم من الرجال، وأن الوقت المفضّل للتدخين هو المساء، لفترة تدوم غالبًا ما بين ٤٠ و٦٠ دقيقة . أما مكان التدخين فهو المنزل بالنسبة لـ٦٥ فـي المئة من المستطلعين، وربعهم يشتري التنباك عبر الإنترنت ويفضّل الفحم الطبيعي.
النرجيلة الإلكترونية
فـي وجه الحملة الحقيقية التي تشن ضد التبغ والنيكوتين ومضاره، نشأت فكرة تصنيع السيجارة الإلكترونية والنرجيلة الإلكترونية، بمختلف أشكالها وألوانها الجذابة ونكهاتها وعطرها، كما لو أنها وسيلة آمنة أو أقل ضررًا من السيجارة أو النرجيلة التقليدية. إلاّ أنه يتبيّن من التجربة أن النرجيلة الإلكترونية تضاعف نسبة إقبال الشباب على تدخينها عددًا وأوقات تدخين، وتؤدّي فـي النهاية الى المضار نفسها على الرئة والصدر والمقدرة على التنفس على المدى الطويل، خاصة وأنها تتضمّن الكثير من الزيوت والغليسيرين. كما أنه من اللافت تسجيل بعض حالات إنفجار للنرجيلة الإلكترونية فـي الولايات المتحدة، ومنها مقتل شخص فـي تكساس على سبيل المثال فـي التاسع والعشرين من يناير ٢٠١٩ من جرّاء ذلك ، ومقتل شخص آخر للسبب نفسه فـي الخامس من فبراير ٢٠١٩ . ومردّ ذلك خلل طارىء فـي بطارية الليثيوم التي تشغلها. إلاّ أن
الدراسات لم تستكمل فـي الواقع لغاية الآن ، بشأن المضار الممكنة والمحتملة للشيشة الإلكترونية .
النرجيلة فـي الصين سابقًا وحاضرًا
لا بد من الإشارة أخيرًا الى شكل من أشكال النرجيلة التي شاعت فـي الصين فـي فترات محددة من تاريخها، ولا سيما إعتبارًا من منتصف القرن التاسع عشر، بتشجيع من الدول الغربية لأسباب تجارية وإستعمارية . وقد إستعملت حينها لإلهاء ملايين الصينيين من آفة تدخين الأفـيون المستورد من الهند، علمًا أنه تمّ منع هذه التجارة إعتبارًا من مطلع القرن العشرين.
فـي المقابل فقد تطوّرت أشكال النرجيلة فـي الصين، وباتت تقترب من الشيشة التقليدية المعروفة، وإنتشرت فـي العديد من المدن الصينية، لا بل الصين تصنع وتصدّر العديد من مكونات النرجيلة ، بما فـيها الفحم.
الشيشة والمشاهير
عدد المشاهير الذين تلتصق صورتهم بالنرجيلة ليس بديهيًا، خاصة مقارنة بأولئك الكثر من الرجال والنساء، فـي عالم السياسة والفن، الذين لازمت السيجارة أو السيجار طلتهم . وقد ذكرنا العديد منهم فـي مقالنا عن السيجار .
المغنية الفرنسية «تامارا مارت» (والدها من جزر المارتينيك الفرنسية) نشرت صورًا لها على حساب الإنستغرام وهي تدخن الشيشا بإنشراح وبلباس خفـيف ، فأثارت موجة عارمة من الإنتقاد، لأن البعض ما زال يساوي، بسبب الجهل ربما، بيت تدخين النرجيلة وتعاطي المخدرات، وإعتبروا بأنها تعطي بذلك المثل السيء لمعجبيها من الشباب.
كذلك أمكن أخذ بعض الصور لعدد من لاعبي كرة القدم وهم يدخنون الشيشا فـي بعض البارات، أثارت ردود فعل إنتقادية مماثلة إجمالاً على وسائل التواصل الإجتماعي، لأن التدخين لا يتوافق بالضرورة مع الروح المفروضة فـي عالم الرياضة. ومن بين هؤلاء، الفرنسي «لايفـين كورزاوا» و«ديديي ديشان»، واللاعب الروسي «الكسندر كوكورين»، والغابوني «اندري بوكو»، والفرنسي-السنغالي «مامادو دوكوري»، والمغربي «فهد موفـي»، والألماني «فـيتالي جانيلت»، والفرنسي «فرانك ريبيري» الذي فتح حانة لشقيق زوجته لتدخين الشيشا فـي مدينة نشأته «بولونيي سور مير» عام ٢٠١٢.
وفـي الخلاصة ، من الواضح أن هناك من يدعو للإقلاع نهائيًا عن التدخين بجميع أشكاله، أو حتى للوصول إلى «عالم خال من التبغ»، وعلى رأسهم «منظمة الصحة العالمية» التابعة للأمم المتحدة ، والتي هي مرجعية لا يمكن الإستهانة بها؛ وهناك من يؤكّد أن الحملة ضد التبغ فـيها الكثير من المبالغة.
تبقى النرجيلة فـي مطلق الأحوال ملتصقة بالشرق وبأحد أوجه ثقافته وطرق عيشه القائم على التشارك والتآخي. تمامًا كما يبقى الإعتدال فـي مقاربة مشارب الحياة قاعدة أساسية من قواعد السلامة والأمان.