منتدى دافوس تعريفه وأهدافه، وكيف يؤثّر على الحوكمة العالمية
يتركّز الإهتمام الإعلامي مطلع كل عام على أعمال منتدى دافوس وعلى ما يجري فـيه من مداولات، وعلى من يشارك فـيه من شخصيات بارزة وفاعليات دولية، وما يُبث عنه من مشاهد وصور .
تنعقد الدورة السنوية للمنتدى هذا العام من الواحد والعشرين لغاية الرابع والعشرين من يناير.
ينظر البعض الى الحدث كما لو أنه مجرّد مهرجان للنخبة، شبيه بالمهرجانات البرّاقة الأخرى التي تسلّط عليها الأضواء ؛ يستحق ما يستحقه من متابعة عامة ومن إهتمام بالعناوين الكبرى.
بينما يعتبره البعض الآخر شكلاً من أشكال الحوكمة الجديدة البالغة التأثير على قرارات الزعماء والدول، وموعدًا إلزاميًا لتكوين تصوّر أوضح عن آفاق الغد وما ينتظره من تجدّد وتطوير فـي طرق العيش الحديث.
ما هو منتدى دافوس على وجه الدقة، وما مدى تأثيره على الحوكمة العالمية فـي بعض أشكالها وجوانبها؟
ناجي أبي عاصي
الإسم الرسمي لمنتدى دافوس هو «المنتدى الاقتصادي العالمي The World Economic Forum، إلاّ أنه نظرًا لإنعقاده سنويًا فـي مدينة دافوس الجبلية فـي سويسرا، غلبت عليه تسمية «منتدى دافوس».
ما هي أهدافه؟
يهدف المنتدى إلى تشجيع التعاون على أعلى المستويات بين القطاعين، العام والخاص. هذه أولى ميزاته.
كما يهدف إلى التباحث بحرية فـي الأوضاع الدولية وفـي مستقبل العالم، وبلورة رؤية عامة حول أبرز المواضيع الاقتصادية والسياسية والعلمية والتقنية، وتقديم أفكار ومشاريع محدّدة من شأنها تحسين وضع العالم.
أما المواضيع التي سيبحثها تحديداً هذا العام فهي مواضيع الطاقة، والتفاهم التجاري الأميركي الصيني الذي تمّ التوصل اليه مؤخراً، وإمكانيات عودة النمو العالمي، وهل ستكون التكنولوجيا المتقدمة وعلى نطاق واسع لخير الأنسانية أم لا، وذلك بمشاركة كبار المسؤولين من فيسبوك وميكروسوفت؛ والتغيير المناخي وضرورة زرع المزيد من الاشجار في العالم ؛ علماً بأن الموضوع الأساسي لهذا العام سيكون «stakeholders for a cohesive and sustainable world» من منطلق ضرورات إعطاء إهتمام أكبر من قبل أصحاب المصالح المعنيين أي رؤساء الشركات للموظفين والمستهلكين والمواضيع المتعلّقة بالبيئة.
من يشارك فـي أعماله؟
أنشأ المنتدى بروفسور جامعي سويسري هو كلاوس شواب عام 1971، وعقد العزم مذ ذاك الحين، على عقد إجتماع سنوي مطلع الشهر الأول من كل عام فـي مدينة دافوس، تتوافد إليه مجموعة من الشخصيات والهيئات الرفـيعة من آفاق ودول مختلفة: رؤساء جمهورية وحكومة ووزراء حاليين وسابقين، شخصيات مرموقة من العالم الأكاديمي والعلمي ومن المجتمع المدني، ومجموعة من كبار رجال الأعمال ومسؤولين عن أكبر الشركات العالمية ورؤساء روحيون وإعلاميون كبار ومنظمات غير حكومية. بلغ عدد المشاركين عام ٢٠١٩، 3000 مشترك، علماً بأن المعدل العام لأعمارهم يتراوح بين 54 سنة للرجال و 49 سنة للسيدات اللواتي شكّلن 22 فـي المئة من مجموع المشاركين.
ومن الشخصيات التي سبق وأن شاركت فـي المنتدى: رؤساء الصين والولايات المتحدة، رؤساء وزراء اليابان ولبنان، رؤساء شركات سيمنس ورينو، وكريستين لاغارد ونلسون مانديلا وياسر عرفات.
أما أبرز المشاركين هذا العام فهم الرئيس دونالد ترامب ووزير خزانته «ستيفن منوشين» ، وأصغر رئيسة وزراء في العالم الفنلندية الشابة التي لا تبلغ سوى ٣٤ عاما» «سانا مارين»، وأنجيلا ماركل من ألمانيا، ورئيس الوزراء الاسباني «بدرو سنشيز»، ورئيسة البنك المركزي الأوروبي الجديدة «كريستيان لاغارد»، ونجمة بوليوود الهندية العالمية الشهيرة «ديبيكا بادوكون» التي صدر لها فيلم جديد منذ أسابيع، ورئيس شركة أووبر «دارا خسروشاهي»، ومؤسس «هواوي تكنولوجي» «رن زنغفي»، والمستثمر الملياردير «جورج سورس»، والمراهقة السويدية الناشطة في مجال التغيير المناخي «غريتا ثونبرغ». بينما سيتغيب الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون؛ كما سيكون هناك مشاركة سعودية واسعة على مستوى وزراء، كوزير الطاقة الأمير عبد العزيز بن سلمان، ورؤساء شركات خاصة، وستكون مناسبة لهم لعرض آفاق «رؤيا ٢٠٣٠» التي تساهم بشكل كبير في تحوّلات نوعية في دينامية الإقتصاد والتطور في المملكة، ومنها مشروع «نيوم»، وإنعقاد ما سمي بـ «دافوس الصحراء» العام الماضي، كما تحدّثنا عن ذلك في أعداد سابقة. يجدر التذكير هنا بأن السعودية تترأس في الوقت الحاضر مجموعة ال G20 التي ستعقد قمتها القادمة في الرياض ما بين ٢١ و٢٢ نوفمبر ٢٠٢٠، وسيخصّص منتدى دافوس جلسة مستقلّة خاصة للبحث في أولويات هذه القمة الهامة.
كما عقد المنتدى إجتماعات إقليمية فـي بعض الدول الأخرى خارج سويسرا، ولا سيما فـي الصين والهند والإمارات العربية المتحدة، وفـي أثيوبيا العام المقبل على ما تمّ الاتفاق عليه مؤخراً.
المواضيع التي يبحثها
من بين المواضيع التي يتمّ طرحها وبحثها فـي المنتدى، من خلال كلمات وندوات وطاولات مستديرة وأحاديث جانبية مختلفة: العولمة، التكنولوجيا الجديدة، الروبوتية والصناعات الحديثة، التجارة الدولية، مشكلات البيئة وصحة الشعوب وأبرز النزاعات الدولية، الاقتصاد العالمي، علم الحوكمة والقيادة.
كيف يتمّ تمويله؟
مثل أي منظمة غير حكومية، يُفترض بالمنتدى أن يكون مؤسسة مستقلة، بما فـي ذلك على الصعيد المالي، غير متحيّزة وغير مرتبطة بمصالح خاصة.
يُموّل المنتدى من قبل أكثر من ألف شركة ويديره مجلس إدارة. ومن اللافت، إرتفاع نسبة المشاركة المالية فـي إجتماعاته وفـي عضويته. فعلى سبيل المثال، فإن سعر تأشيرة الدخول الى أحد إجتماعاته يبلغ ١٥ ألف فرنك سويسري، أما كلفة المشاركة فتبلغ 50 ألف فرنك سويسري ؛ علماً بأن هناك لائحة بالأشخاص والمؤسسات المعفـية من بدل الدخول (كرؤساء الدول والوزراء وبعض الإعلاميين والاكاديميين).
أما بدل الإنتساب الى عضوية المنتدى فـيتراوح بين ٦٠ و٦٠٠ ألف فرنك سويسري، وفقاً لمدى الإلتزام بنشاط وإدارة المنتدى.
هل هو شكل جديد من أشكال الحوكمة العالمية؟
ممّا لا شك فـيه أن منظمة الأمم المتحدة التي أنشئت عام ١٩٤٨، بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية، كبديل عن عصبة الأمم التي سبق وأن أنشئت بعد الحرب العالمية الأولى، لم تنجح فـي تأمين جميع الأهداف التي أنشئت من أجلها. ومن بين هذه الأهداف، منع النزاعات وتحقيق الأمن والتنمية الاقتصادية والاجتماعية للدول. أما أسباب ذلك، فمن بينها، الحق الممنوح للدول الخمس الدائمة العضوية فـي «مجلس الأمن الدولي» باللجؤ الى الڤيتو لتعطيل قرارات المجلس؛ وإكتفاء «الجمعية العامة» بتوفـير منبر لإلقاء الكلمات لرؤساء الوفود، دون وجود آلية فعلية للمناقشة والحوار حول المواضيع المطروحة؛ بينما لم يتمكّن «المجلس الاقتصادي والاجتماعي» على الصعيد العملي، من تنفـيذ برامج متكاملة من شأنها تأمين التقدّم المنشود للمجموعة الدولية ككل.
كما أن الأمم المتحدة، التي تشكّل منظمة حكومية دولية، لم تُشرك بما فـيه الكفاية القطاع الخاص والمؤسسات والمنظمات غير الحكومية، فـي عملية النقاش والبحث المشترك عن الحلول اللازمة للمشاكل الدولية المتعدّدة الأبعاد.
صحيح أن تجمّعات أخرى نشأت للسعي لمعالجة التعقيدات الدولية خارج الإطار التقليدي للأم المتحدة، كمجموعة الـG7، ومجموعة الـBricks ومجموعة الـG20، التي تنتمي كل من المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة واوستراليا وكندا وفرنسا وألمانيا وايطاليا والمملكة المتحدة والأرجنتين والبرازيل والمكسيك والصين والهند واليابان وأندونيسيا وكوريا الجنوبية وأفريقيا الجنوبية وروسيا وتركيا إلى عضويتها. إلاّ أنها تبقى منظمات حكومية مغلقة الى حد كبير، وبات ينظر إليها كمجموعات حكومية غير تمثيلية للمجتمع الدولي ككل، وتبحث عن تأمين المصالح الأساسية والحصرية لدولها. من هذا المنطلق، يبدو «منتدى دافوس» كما لو أنه إطار دولي مختلف، للدفع بإتجاه حوكمة عالمية جديدة. فأعماله غير محكومة كثيراً بضوابط البروتوكول، والمناقشات تتم بحرية وبصورة مباشرة ودينامية، والمشاركون فـيه ينتمون الى القطاعين العام والخاص على السواء. كما أن نوعية بعض المشاركين، ولا سيما من يمثّل منهم الـ start ups والتقنيات الحديثة والمتقدّمة على صعيدي علم التواصل والاختراعات الخلاّقة والسيارات العاملة على الكهرباء والذكاء الاصطناعي.
ومن شأن ذلك، تمكين المشاركين من وضع إقتراحات وسياسات أسرع وأكثر فعالية من السياسات التقليدية والبطيئة، التي ما زالت تنتهجها الحكومات غير المنخرطة فـي النقاش الدولي الهادف إلى الحداثة وتوسيع آفاق المستقبل.
ومثل هذا البحث هو ما سعى منتدى دافوس إلى تحقيقه لغاية الآن بنجاح متفاوت من عام الى آخر.
الإنتقادات التي توجّه إليه
يشكّل منتدى دافوس بالنسبة للبعض مجرّد ملتقى للنخبة، ولا سيما المالية والاقتصادية، أو نادٍ مغلق للأغنياء والأقوياء، ممن تنحصر أهدافهم فـي كيفـية السيطرة على العالم وإستثمار ثرواته.
وقد جاء على لسان أحد الأساتذة فـي هذا المجال ما مفاده: «هؤلاء أناس لا يأبهون بمبدأ الولاء الوطني، وينظرون الى حدود الدولة كما لو أنها حواجز أمام طموحاتهم، ويعتبرون الحكومات ذات الطابع القومي مخلّفات من الماضي يجب ان تنحصر مهمتها فـي كيفـية تسهيل الأنشطة العامة للنخبة على المستوى العالمي».
مثل هذا الكلام يبقى بطبيعة الحال كلاماً مضخّماً ويفتقد الى الواقعية إلى حد ما، إذ تبقى حكومات الدول الكبرى، ولا سيما تلك الأعضاء فـي الـ G7 والـ G20 والـ BRICS، فـي موقع يسمح لها بالتمسك بمقاليد القرار الدولي الى حدٍّ كبير، ليس فقط على الصعيدين السياسي والعسكري، إنما على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والمالية كذلك. وما بعض العثرات التي واجهها إجتماع منتدى دافوس عام ٢٠١٩، الاّ دليل على محدودية السلطة الفعلية التي يمتلكها على صعيد الحوكمة العالمية الفعلية.
كما أن هناك منتديات أخرى، كمنتدى دافوس، تعنى بالشؤون الدولية بشكل غير تقليدي، وأبرزها فـي مجال الأمن كالـ: Global Commission on the stability of Cyberspace التي أنشئت عام 2017 على إثر «مؤتمر ميونيخ حول الأمن». يجمع هذا المنتدى كل عام، العديد من رؤساء الدول والحكومات وأمين عام حلف شمال الاطلسي وبيل غيتس، وأمين عام الأمم المتحدة وشخصيات علمية واكاديمية.
منتدى دافوس عام ٢٠١٩
واجه منتدى دافوس عام ٢٠١٩ بعض التعثّر جرّاء عدم مشاركة الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الفرنس إيمانويل ماكرون ورئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي فـي أعماله كما كان متوقّعاً.
قد يعود سبب ذلك إلى إنشغالهم فـي قضايا داخلية كالجدار مع المكسيك بالنسبة للولايات المتحدة والنقاش الخاص بالسترات الصفراء فـي فرنسا وتداعيات الخروج من الإتحاد الاوروبي إعتباراً من 29 مارس بالنسبة للمملكة المتحدة.
خلاصة
وبالرغم من ذلك يبقى منتدى دافوس من أهم المنتديات الدولية الجدّية والمؤثرة ؛ وهو يبقى واثقاً من نفسه ومن قدرته على التأثير والتغيير وخلق الفرص المؤاتية للتقدّم؛ كما أنه ما زال يؤكّد على أنه، كمنظمة غير حكومية وكمنتدى اقتصادي عالمي، سيستمر فـي «العمل على جمع أصحاب القرار ومالكي موهبة الاختراع فـي العالم، من أي قطاع أتوا، من أجل خير الإنسانية جمعاء».